فصل: تفسير الآية رقم (191)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏183‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ‏}‏، فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ‏}‏‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ ‏"‏، أَوْصَانَا، وَتَقَدَّمَ إِلَيْنَا فِي كُتُبِهِ وَعَلَى أَلْسُنِ أَنْبِيَائِهِ ‏"‏أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ أَنْ لَا نُصَدِّقَ رَسُولًا فِيمَا يَقُولُ إِنَّهُ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَنْ أَمْرٍ وَنَهْيٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ حَتَّى يَجِيئَنَا بِقُرْبَانٍ، وَهُوَ مَا تَقَرَّبَ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ مِنْ صَدَقَةٍ‏.‏

وَهُوَ مَصْدَرٌ مِثْلُ ‏"‏الْعُدْوَانِ ‏"‏وَ ‏"‏الخُسْرَان‏"‏ مِنْ قَوْلِكَ‏:‏ ‏"‏قَرَّبْتُ قُرْبَانًا‏"‏‏.‏

وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏تَأْكُلُهُ النَّارُ ‏"‏، لِأَنَّ أَكْلَ النَّارِ مَا قَرَّبَهُ أَحَدُهُمْ لِلَّهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، كَانَ دَلِيلًا عَلَى قَبُولِ اللَّهِ مِنْهُ مَا قُرِّبَ لَهُ، وَدَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ الْمُقَرِّبِ فِيمَا ادَّعَى أَنَّهُ مُحِقٌّ فِيمَا نَازَعَ أَوْ قَالَ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ‏}‏، كَانَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ، فَإِذَا تُقُبِّلَ مِنْهُ، أُنْـزِلَتْ عَلَيْهِ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَأَكَلَتْهُ‏.‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ‏}‏، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَتُقُبِّلَتْ مِنْهُ، بَعَثَ اللَّهُ نَارًا مِنَ السَّمَاءِ فنَزَلَتْ عَلَى الْقُرْبَانِ فَأَكَلَتْهُ‏.‏

فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏[‏قُلْ، يَا مُحَمَّدُ، لِلْقَائِلِينَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا‏]‏ أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ‏:‏ ‏[‏قَدْ جَاءَكُمْ‏]‏ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ بِالْحُجَجِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ نُبُوَّتِهِمْ وَحَقِيقَةِ قَوْلِهِمْ ‏{‏وَبِالَّذِي قُلْتُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَبِالَّذِي ادَّعَيْتُمْ أَنَّهُ إِذَا جَاءَ بِهِ لَزِمَكُمْ تَصْدِيقُهُ وَالْإِقْرَارُ بِنُبُوَّتِهِ، مِنْ أَكْلِ النَّارِ قُرْبَانَهُ إِذَا قَرَّبَ لِلَّهِ دَلَالَةً عَلَى صِدْقِهِ، ‏{‏فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏، يَقُولُ لَهُ‏:‏ قُلْ لَهُمْ‏:‏ قَدْ جَاءَتْكُمُ الرُّسُلُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِي بِالَّذِي زَعَمْتُمْ أَنَّهُ حُجَّةٌ لَهُمْ عَلَيْكُمْ، فَقَتَلْتُمُوهُمْ، فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ وَأَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الَّذِي جَاءُوكُمْ بِهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ حُجَّةً لَهُمْ عَلَيْكُمْ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فِي أَنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمَنْ أَتَاكُمْ مِنْ رُسُلِهِ بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ حُجَّةً لَهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ‏؟‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَإِنَّمَا أَعْلَمُ اللَّهُ عِبَادَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَنْ يَعْدُوَا أَنْ يَكُونُوا فِي كَذِبِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَافْتِرَائِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ يَعْلَمُونَهُ صَادِقًا مُحِقًّا، وَجُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ وَهُمْ يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي عَهْدِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَنَّهُ رَسُولُهُ إِلَى خَلْقِهِ، مَفْرُوضَةٍ طَاعَتَهُ إِلَّا كَمَنْ مَضَى مِنْ أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا يَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بَعْدَ قَطْعِ اللَّهِ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ الَّتِي أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَالْأَدِلَّةِ الَّتِي أَبَانَ صِدْقَهُمْ بِهَا، افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِخْفَافًا بِحُقُوقِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏184‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا تَعْزِيَةٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَذَى الَّذِي كَانَ يَنَالُهُ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ مِنْ سَائِرِ أَهْلِ الْمِلَلِ‏.‏ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ‏:‏ لَا يُحْزِنُكَ، يَا مُحَمَّدُ، كَذِبَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ‏}‏، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَنْ لَا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ‏}‏، وَافْتِرَاؤُهُمْ عَلَى رَبِّهِمُ اغْتِرَارًا بِإِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَلَا يَعْظُمَنَّ عَلَيْكَ تَكْذِيبَهُمْ إِيَّاكَ، وَادِّعَاؤُهُمُ الْأَبَاطِيلَ مِنْ عُهُودِ اللَّهِ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِكَ فَكَذَّبُوكَ وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ، فَقَدْ كَذَّبَتْ أَسْلَافُهُمْ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ قَبْلَكَ مَنْ جَاءَهُمْ بِالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ الْعُذْرَ، وَالْأَدِلَّةِ الْبَاهِرَةِ الْعَقْلَ، وَالْآيَاتِ الْمُعْجِزَةِ الْخَلْقَ، وَذَلِكَ هُوَ الْبَيِّنَاتُ‏.‏

وَأَمَّا ‏"‏الزُّبُرُ ‏"‏ فَإِنَّهُ جَمْعُ ‏"‏زَبُورٍ ‏"‏، وَهُوَ الْكُتَّابُ، وَكُلُّ كِتَابٍ فَهُوَ‏:‏ ‏"‏زَبُورٌ ‏"‏، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ‏:‏

لِمَـنْ طَلـلٌ أَبْصَرْتُـهُ فَشَـجَانِي‏؟‏ *** كخَـطِّ زَبُـورٍ فـي عَسِـيبٍ يَمَـانِي

وَيَعْنِي‏:‏ بـ ‏"‏الْكِتَابِ ‏"‏، التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبَتْ عِيسَى وَمَا جَاءَ بِهِ، وَحَرَّفَتْ مَا جَاءَ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صِفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَدَّلَتْ عَهْدَهُ إِلَيْهِمْ فِيهِ، وَأَنَّ النَّصَارَى جَحَدَتْ مَا فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ نَعْتِهِ، وَغَيَّرَتْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ فِي أَمْرِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏الْمُنِيرِ ‏"‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ الَّذِي يُنِيرُ فَيُبَيِّنُ الْحَقَّ لِمَنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ وَيُوَضِّحُهُ‏.‏

وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ ‏"‏النُّورِ ‏"‏ وَالْإِضَاءَةِ، يُقَالُ‏:‏ ‏"‏قَدْ أَنَارَ لَكَ هَذَا الْأَمْرَ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَضَاءَ لَكَ وَتَبَيَّنَ، ‏"‏فَهُوَ يُنِيرُ إِنَارَةً، وَالشَّيْءُ مُنِيرٌ ‏"‏، وَقَدْ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏، قَالَ‏:‏ يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَهَذَا الْحَرْفُ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ‏:‏ ‏"‏وَالزُّبُرِ ‏"‏بِغَيْرِ ‏"‏بَاءٍ ‏"‏، وَهُوَ فِي مَصَاحِفِ أَهْلِ الشَّامِ‏:‏ ‏"‏وَبِالزُّبُر‏"‏ بِالْبَاءِ، مِثْلَ الَّذِي فِي ‏"‏سُورَةِ فَاطِرٍ ‏"‏‏.‏ ‏[‏25‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏185‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَنَّ مَصِيرَ هَؤُلَاءِ الْمُفْتَرِينَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْيَهُودِ، الْمُكَذِّبِينَ بِرَسُولِهِ، الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْ جَرَاءَتِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَمَصِيرِ غَيْرِهِمْ مِنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَمَرْجِعِ جَمِيعِهِمْ إِلَيْهِ‏.‏ لِأَنَّهُ قَدْ حَتَّمَ الْمَوْتَ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا يُحْزِنُكَ تَكْذِيبَ مَنْ كَذَّبَكَ، يَا مُحَمَّدُ، مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ، وَافْتِرَاءِ مَنْ افْتَرَى عَلَيَّ، فَقَدْ كُذِّبَ قَبْلَكَ رُسُلٌ جَاءُوا مِنَ الْآيَاتِ وَالْحُجَجِ مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ، بِمِثْلِ الَّذِي جِئْتَ مَنْ أُرْسِلْتَ إِلَيْهِ، فَلَكَ فِيهِمْ أُسْوَةٌ تَتَعَزَّى بِهِمْ، وَمَصِيرُ مَنْ كَذَّبَكَ وَافْتَرَى عَلَيَّ وَغَيْرُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ إِلَيَّ، فَأُوَفِّي كُلَّ نَفْسٍ مِنْهُمْ جَزَاءَ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ أُجُورَ أَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ ‏{‏فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَمَنْ نُحِّيَ عَنِ النَّارِ وَأُبْعِدَ مِنْهَا ‏"‏فَقَدْ فَازَ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَقَدْ نَجَا وَظَفِرَ بِحَاجَتِهِ‏.‏

يُقَالُ مِنْهُ‏:‏ ‏"‏فَازَ فُلَانٌ بِطِلْبَتِهِ، يَفُوزُ فَوْزًا وَمَفَازًا وَمَفَازَةً ‏"‏، إِذَا ظَفِرَ بِهَا‏.‏

وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ فَمَنْ نُحِّيَ عَنِ النَّارِ فَأُبْعِدَ مِنْهَا وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ، فَقَدْ نَجَا وَظَفِرَ بِعَظِيمِ الْكَرَامَةِ ‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَمَالَذَّاتُ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتُهَا وَمَا فِيهَا مِنْ زِينَتِهَا وَزَخَارِفِهَا ‏"‏إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ إِلَّا مُتْعَةٌ يُمَتِّعُكُمُوهَا الْغُرُورُ وَالْخِدَاعُ الْمُضْمَحِلُّ الَّذِي لَا حَقِيقَةَ لَهُ عِنْدَ الِامْتِحَانِ، وَلَا صِحَّةَ لَهُ عِنْدَ الِاخْتِبَارِ‏.‏ فَأَنْتُمْ تَلْتَذُّونَ بِمَا مَتَّعَكُمُ الْغُرُورَ مِنْ دُنْيَاكُمْ، ثُمَّ هُوَ عَائِدٌ عَلَيْكُمْ بِالْفَجَائِعِ وَالْمَصَائِبِ وَالْمَكَارِهِ‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الدُّنْيَا فَتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، فَإِنَّمَا أَنْتُمْ مِنْهَا فِي غُرُورٍ تُمَتَّعُونَ، ثُمَّ أَنْتُمْ عَنْهَا بَعْدَ قَلِيلٍ رَاحِلُونَ‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ مَا‏:‏ حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الْأَخْنَسِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏، قَالَ‏:‏ كَزَادِ الرَّاعِي، تَزَوَّدَهُ الْكَفَّ مِنَ التَّمْرِ، أَوْ الشَّيْءَ مِنَ الدَّقِيقِ، أَوْ الشَّيْءَ يَشْرَبُ عَلَيْهِ اللَّبَنَ‏.‏

فَكَأَنَّ ابْنَ سَابِطٍ ذَهَبَ فِي تَأْوِيلِهِ هَذَا، إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ، لَا يُبَلِّغُ مَنْ تَمَتَّعَهُ وَلَا يَكْفِيهِ لِسَفَرِهِ‏.‏ وَهَذَا التَّأْوِيلُ، وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مِنْ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقَوْلِ فِيهِ هُوَ مَا قُلْنَا‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏الْغُرُورَ ‏"‏ إِنَّمَا هُوَ الْخِدَاعُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ‏.‏ وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَلَا وَجْهَ لِصَرْفِهِ إِلَى مَعْنَى الْقِلَّةِ، لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَكُونُ قَلِيلًا وَصَاحِبُهُ مِنْهُ فِي غَيْرِ خِدَاعٍ وَلَا غُرُورٍ‏.‏ وَأَمَّا الَّذِي هُوَ فِي غُرُورٍ، فَلَا الْقَلِيلُ يَصِحُّ لَهُ وَلَا الْكَثِيرُ مِمَّا هُوَ مِنْهُ فِي غُرُورٍ‏.‏

وَ ‏"‏الْغُرُورُ ‏"‏مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ‏:‏ ‏"‏غَرَّنِي فَلَانٌ فَهُوَ يَغُرُّنِي غُرُورًا‏"‏ بِضَمِّ ‏"‏الْغَيْنِ ‏"‏‏.‏ وَأَمَّا إِذَا فُتِحَتِ ‏"‏الْغَيْنُ ‏"‏ مِنْ ‏"‏الْغَرُورِ ‏"‏، فَهُوَ صِفَةٌ لِلشَّيْطَانِ الْغَرُورِ، الَّذِي يَغُرُّ ابْنَ آدَمَ حَتَّى يُدْخِلَهُ مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِيمَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ عُقُوبَتَهُ‏.‏

وَقَدْ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدَةُ وَعَبْدُ الرَّحِيمِ قَالَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ ‏(‏قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ ‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏186‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ‏}‏، لَتُخْتَبَرُنَّ بِالْمَصَائِبِ فِي أَمْوَالِكُمْ ‏"‏وَأَنْفُسِكُمْ، يَعْنِي‏:‏ وَبِهَلَاكِ الْأَقْرِبَاءِ وَالْعَشَائِرِ مِنْ أَهْلِ نُصْرَتِكُمْ وَمِلَّتِكُمْ ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ مِنَ الْيَهُودِ وَقَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏، وَقَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ افْتِرَائِهِمْ عَلَى اللَّهِ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏، يَعْنِي النَّصَارَى ‏"‏أَذًى كَثِيرًا ‏"‏، وَالْأَذَى مِنَ الْيَهُودِ مَا ذَكَرْنَا، وَمِنَ النَّصَارَى قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏{‏الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ‏}‏، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ بِاللَّهِ ‏{‏وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَإِنْ تَصْبِرُوا لِأَمْرِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ فِيهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِ ‏"‏ وَتَتَّقُوا ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَتَتَّقُوا اللَّهَ فِيمَا أَمَرَكُمْ وَنَهَاكُمْ، فَتَعْمَلُوا فِي ذَلِكَ بِطَاعَتِهِ ‏{‏فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَإِنَّ ذَلِكَ الصَّبْرَ وَالتَّقْوَى مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَكُمْ بِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ نَزَلَ فِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ، سَيِّدِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، كَالَّذِي‏:‏ حَدَّثَنَا بِهِ الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ قَالَ عِكْرِمَةُ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا‏}‏، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي أَبِي بَكْرٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَفِي فِنْحَاصَ الْيَهُودِيِّ سَيِّدِ بَنِي قَيْنُقَاعَ قَالَ‏:‏ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَحِمَهُ اللَّهُ إِلَى فِنْحَاصَ يَسْتَمِدُّهُ، وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِكِتَابٍ، وَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ‏:‏ ‏"‏لَا تَفْتَاتُنَّ عَلَيَّ بِشَيْءٍ حَتَّى تَرْجِعَ ‏"‏‏.‏ فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ مُتَوَشِّحٌ بِالسَّيْفِ، فَأَعْطَاهُ الْكِتَابَ، فَلَمَّا قَرَأَهُ قَالَ‏:‏ ‏"‏قَدْ احْتَاجَ رَبُّكُمْ أَنْ نَمُدَّهُ ‏"‏‏!‏ فَهَمَّ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، ثُمَّ ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏لَا تَفْتَاتُنَّ عَلَيَّ بِشَيْءٍ حَتَّى تَرْجِعَ ‏"‏، فَكَفَّ، ونَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ‏}‏‏.‏ وَمَا بَيْنَ الْآيَتَيْنِ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ‏}‏، نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي بَنِي قَيْنُقَاعَ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ يُعَزِّي نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏"‏لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ‏"‏، قَالَ‏:‏ أَعْلَمَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ سَيَبْتَلِيهِمْ، فَيَنْظُرُ كَيْفَ صَبْرُهُمْ عَلَى دِينِهِمْ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا‏}‏ فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْمَعُونَ مِنَ الْيَهُودِ قَوْلَهُمْ‏:‏ ‏"‏عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ‏"‏، وَمِنَ النَّصَارَى‏:‏ ‏"‏الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ‏"‏، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَنْصِبُونَ لَهُمُ الْحَرْبَ إِذْ يَسْمَعُونَ إِشْرَاكَهُمْ، فَقَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ مِنَ الْقُوَّةِ مِمَّا عَزَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَمَرَكُمْ بِهِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويتشبَّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُو الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ، وَكَانَ يُحَرِّضُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي شِعْرِهِ، وَيَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ خَمْسَةُ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فِيهِمْ مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمَةَ، وَرَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَبْسٍ‏.‏ فَأَتَوْهُ وَهُوَ فِي مَجْلِسِ قَوْمِهِ بِالْعَوَالِي، فَلَمَّا رَآهُمْ ذُعِرَ مِنْهُمْ، فَأَنْكَرَ شَأْنَهُمْ، وَقَالُوا‏:‏ جِئْنَاكَ لِحَاجَةٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ فَلْيَدْنُ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ فَلْيُحَدِّثْنِي بِحَاجَتِهِ‏.‏ فَجَاءَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَالَ‏:‏ جِئْنَاكَ لِنَبِيعَكَ أَدْرَاعًا عِنْدَنَا لِنَسْتَنْفِقَ بِهَا‏.‏ فَقَالَ‏:‏ وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ لَقَدْ جُهِدْتُمْ مُنْذُ نَزَلَ بِكُمْ هَذَا الرَّجُلُ‏!‏ فَوَاعَدُوهُ أَنْ يَأْتُوهُ عَشَاءً حِينَ هَدَأَ عَنْهُمُ النَّاسُ، فَأَتَوْهُ فَنَادَوْهُ، فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ‏:‏ مَا طَرْقَكَ هَؤُلَاءِ سَاعَتَهُمْ هَذِهِ لِشَيْءٍ مِمَّا تُحِبُّ‏!‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ حَدَّثُونِي بِحَدِيثِهِمْ وَشَأْنِهِمْ‏.‏

قَالَ مَعْمَرٌ‏:‏ فَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ أَنَّهُ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ فَكَلَّمَهُمْ، فَقَالَ‏:‏ أَتُرْهِنُونِي أَبْنَاءَكُمْ‏؟‏ وَأَرَادُوا أَنْ يَبِيعَهُمْ تَمْرًا‏.‏ قَالَ، فَقَالُوا‏:‏ إِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ تُعَيَّرَ أَبْنَاؤُنَا فَيُقَالُ‏:‏ ‏"‏هَذَا رَهِينَةُ وَسْقٍ، وَهَذَا رَهِينَةُ وَسَقَيْنِ ‏"‏‏!‏ فَقَالَ‏:‏ أَتُرْهِنُونِي نِسَاءَكُمْ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ أَنْتَ أَجْمَلُ النَّاسِ، وَلَا نَأْمَنُكَ‏!‏ وَأَيُّ امْرَأَةٍ تَمْتَنِعُ مِنْكَ لِجَمَالِكَ‏!‏ وَلَكِنَّا نُرْهِنُكَ سِلَاحَنَا، فَقَدْ عَلِمْتَ حَاجَتَنَا إِلَى السِّلَاحِ الْيَوْمَ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ ائْتُونِي بِسِلَاحِكُمْ، وَاحْتَمِلُوا مَا شِئْتُمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ فَانْـزِلْ إِلَيْنَا نَأْخُذْ عَلَيْكَ وَتَأْخُذْ عَلَيْنَا‏.‏ فَذَهَبَ ينَزَلُ، فَتَعَلَّقَتْ بِهِ امْرَأَتُهُ وَقَالَتْ‏:‏ أَرْسِلْ إِلَى أَمْثَالِهِمْ مِنْ قَوْمِكَ يَكُونُوا مَعَكَ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَوْ وَجَدَنِي هَؤُلَاءِ نَائِمًا مَا أَيْقَظُونِي‏!‏ قَالَتْ‏:‏ فَكَلِّمْهُمْ مِنْ فَوْقِ الْبَيْتِ، فَأَبَى عَلَيْهَا، فنَزَلَ إِلَيْهِمْ يَفُوحُ رِيحُهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ مَا هَذِهِ الرِّيحُ يَا فُلَانُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ هَذَا عِطْرٌ أُمِّ فُلَانٍ‏!‏ امْرَأَتُهُ‏.‏ فَدَنَا إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ يَشُمُّ رَائِحَتَهُ، ثُمَّ اعْتَنَقَهُ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ اقْتُلُوا عَدُوَّ اللَّهِ‏!‏ فَطَعَنَهُ أَبُو عَبْسٍ فِي خَاصِرَتِهِ، وَعَلَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُسَلِّمَةَ بِالسَّيْفِ، فَقَتَلُوهُ ثُمَّ رَجَعُوا‏.‏ فَأَصْبَحَتْ الْيَهُودُ مَذْعُورِينَ، فَجَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا‏:‏ قُتِلَ سَيِّدُنَا غِيلَةً‏!‏ فَذَكَّرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَنِيعَهُ، وَمَا كَانَ يَحُضُّ عَلَيْهِمْ، وَيُحَرِّضُ فِي قِتَالِهِمْ وَيُؤْذِيهِمْ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ صُلْحًا، قَالَ‏:‏ فَكَانَ ذَلِكَ الْكِتَابُ مَعَ عَلَيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏187‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُفَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ وَاذْكُرْ أَيْضًا مَنْ ‏[‏أَمْرِ‏]‏ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ، يَا مُحَمَّدُ، إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَهُمْ، لَيُبَينُنَّ لِلنَّاسِ أَمْرَكَ الَّذِي أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ عَلَى بَيَانِهِ لِلنَّاسِ فِي كِتَابِهِمُ الَّذِي فِي أَيْدِيهِمْ، وَهُوَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ، وَأَنَّكَ لِلَّهِ رَسُولٌ مُرْسَلٌ بِالْحَقِّ، وَلَا يَكْتُمُونَهُ ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَتَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ وَضَيَّعُوهُ‏.‏ وَنَقَضُوا مِيثَاقَهُ الَّذِي أُخِذَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، فَكَتَمُوا أَمْرَكَ، وَكَذَّبُوا بِكَ ‏{‏وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَابْتَاعُوا بِكِتْمَانِهِمْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقُ أَنْ لَا يَكْتُمُوهُ مَنْ أَمْرِ نُبُوَّتِكَ، عِوَضًا مِنْهُ خَسِيسًا قَلِيلًا مِنْ عَرَضِ الدُّنْيَا ثُمَّ ذَمَّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ شِرَاءَهُمْ مَا اشْتَرَوْا بِهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏‏.‏

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عُنِيَ بِهَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِهَا الْيَهُودُ خَاصَّةً‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ أَنَّهُ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ فِنْحَاصُ وَأَشْيَعُ وَأَشْبَاهُهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، كَانَ أَمْرُهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلَمَّاتِهِ، وَقَالَ‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 158‏]‏ فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 40‏]‏ عَاهَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ حِينَ بَعَثَ مُحَمَّدًا‏:‏ صَدِّقُوهُ، وَتَلْقَوْنَ الَّذِي أَحْبَبْتُمْ عِنْدِي‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ إِنَّ اللَّهَ أَخَذَ مِيثَاقَ الْيَهُودِ لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكْتُمُونَهُ، ‏"‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلً ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ قَالَ‏:‏ سَأَلَ الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ جُلَسَاءَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏، فَقَامَ رَجُلٌ إِلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ‏:‏ ‏"‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ أَهْلِ الْكِتَاب‏"‏ يَهُودَ، ‏"‏لَيُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ ‏"‏، مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ‏"‏وَلَا يَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ وَكَانَ فِيهِ إِنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي افْتَرَضَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عَنِي بِذَلِكَ كُلَّ مَنْ أُوتِيَ عِلْمًا بِأَمْرِ الدِّينِ‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏ الْآيَةَ، هَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ، فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيُعَلِّمْهُ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ، فَإِنَّكِتْمَانَ الْعِلْمِهَلَكَةٌ، وَلَا يَتَكَلَّفَنَّ رَجُلٌ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَيَخْرُجُ مِنْ دِينِ اللَّهِ فَيَكُونُ مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، كَانَ يُقَالُ‏:‏ ‏"‏مَثَلُ عِلْمٍ لَا يُقَالُ بِهِ، كَمَثَلِ كَنْـزٍ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ‏!‏ وَمَثَلُ حِكْمَةٍ لَا تَخْرُجُ، كَمَثَلِ صَنَمٍ قَائِمٍ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ ‏"‏‏.‏ وَكَانَ يُقَالُ‏:‏ ‏"‏طُوبَى لِعَالِمٍ نَاطِقٍ، وَطُوبَى لِمُسْتَمِعٍ وَاعٍ ‏"‏‏.‏ هَذَا رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَعَلَّمَهُ وَبَذَلَهُ وَدَعَا إِلَيْهِ، وَرَجُلٌ سَمِعَ خَيْرًا فَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ وَانْتَفَعَ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى قَوْمٍ فِي الْمَسْجِدِ وَفِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ أَخَاكُمْ كَعْبًا يُقْرِئُكُمُ السَّلَامَ، وَيُبَشِّرُكُمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَيْسَتْ فِيكُمْ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏‏.‏ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ وَأَنْتَ فَأَقْرِهِ السَّلَامَ وَأَخْبِرْهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ وَهُوَ يَهُودِيٌّ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بِنَحْوِهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَكَعْبٍ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِيثَاقَهَمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ مِنَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ سَعِيدٍ قَالَ، قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ إِنَّ أَصْحَابَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْرَءُونَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏، ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ‏}‏، قَالَ فَقَالَ‏:‏ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ عَلَى قَوْمِهِمْ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ‏}‏، فَإِنَّهُ كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ذَكْوَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو نَعَامَةَ السَّعْدِيُّ قَالَ‏:‏ كَانَ الْحَسَنُ يُفَسِّرُ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏، لَتَتَكَلَّمُنَّ بِالْحَقِّ، وَلَتُصَدِّقُنَّهُ بِالْعَمَلِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ‏:‏

فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏{‏لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏ بِالتَّاءِ‏.‏ وَهِيَ قِرَاءَةُ عِظَمِ ْقَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ، عَلَى وَجْهِ الْمُخَاطَبِ، بِمَعْنَى‏:‏ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ‏:‏ ‏{‏لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏}‏‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ ‏{‏لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ‏}‏ بِالْيَاءِ جَمِيعًا، عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ إِخْبَارِ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ، كَانُوا غَيْرَ مَوْجُودِينَ، فَصَارَ الْخَبَرُ عَنْهُمْ كَالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ، صَحِيحَةٌ وُجُوهُهُمَا، مُسْتَفِيضَتَانِ فِي ْقَرَأَةِ الْإِسْلَامِ، غَيْرُ مُخْتَلِفَتَيْ الْمَعَانِي، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَقَدْ أَصَابَ الْحَقَّ وَالصَّوَابَ فِي ذَلِكَ‏.‏ غَيْرَ أَنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَإِنْ أَحَبَّ الْقِرَاءَتَيْنِ إِلَيَّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا‏:‏ ‏{‏لَيُبَيِّنَنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا يَكْتُمُونَهُ‏}‏، بِالْيَاءِ جَمِيعًا، اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَنَبَذُوهُ ‏"‏، إِذْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ عَلَى سَبِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏فَنَبَذُوه‏"‏ حَتَّى يَكُونَ مُتَّسِقًا كُلَّهُ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَمِثَالٍ وَاحِدٍ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ بِمَعْنَى الْخِطَابِ، لَكَانَ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏فَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ‏"‏ أَوْلَى، مِنْ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ‏"‏، فَإِنَّهُ مَثَلٌ لِتَضْيِيعِهِمُ الْقِيَامَ بِالْمِيثَاقِ وَتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ بِهِ‏.‏

وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا هَذَا فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ البَجَليُّ، عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ إِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يُقْرَءُونَهُ، إِنَّمَا نَبَذُوا الْعَمَلَ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ نَبَذُوا الْمِيثَاقَ‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ مَغُولٍ‏:‏ قَالَ، نُبِّئَْتُ عَنِ الشَّعْبِيِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ قَذَفُوهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَتَرَكُوا الْعَمَلَ بِهِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏، فَإِنَّ مَعْنَاهُ مَا قُلْنَا، مِنْ أَخْذِهِمْ مَا أَخَذُوا عَلَى كِتْمَانِهِمُ الْحَقَّ وَتَحْرِيفِهِمُ الْكِتَابَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُفَضَّلٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏، أَخَذُوا طَمَعًا، وَكَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَبِئْسَ الشِّرَاءُ يَشْتَرُونَ فِي تَضْيِيعِهِمُ الْمِيثَاقَ وَتَبْدِيلِهِمُ الْكِتَابَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ‏}‏، قَالَ‏:‏ تَبْدِيلُ الْيَهُودِ التَّوْرَاةَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏188‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ كَانُوا يَقْعُدُونَ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا الْعَدُوَّ، فَإِذَا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ وَابْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْبَرْقِيُّ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ‏:‏ ‏(‏أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْغَزْوِ، تَخَلَّفُوا عَنْهُ، وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ‏.‏ وَإِذَا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ السَّفَرِ اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏.‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ الْآيَةَ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ، يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَوْ قَدْ خَرَجَتْ لَخَرْجْنَا مَعَكَ‏!‏ فَإِذَا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَخَلَّفُوا وَكَذَبُوا، وَيَفْرَحُونَ بِذَلِكَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهَا حِيلَةٌ احْتَالُوا بِهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوَّمٌ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، كَانُوا يَفْرَحُونَ بِإِضْلَالِهِمْ النَّاسَ، وَنِسْبَةُ النَّاسِ إِيَّاهُمْ إِلَى الْعِلْمِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏"‏، يَعْنِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهَهُمَا مِنَ الْأَحْبَارِ، الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُونَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَا زَيَّنُوا لِلنَّاسِ مِنَ الضَّلَالَةِ ‏{‏وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، أَنْ يَقُولَ لَهُمُ النَّاسُ عُلَمَاءَ، وَلَيْسُوا بِأَهْلِ عِلْمٍ، لَمْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى هُدًى وَلَا خَيْرٍ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَقُولَ لَهُمُ النَّاسُ‏:‏ قَدْ فَعَلُوا‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ قَالَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ‏:‏ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِنَحْوِ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ‏:‏ وَلَيْسُوا بِأَهْلِ عِلْمٍ، لَمْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى هُدًى‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَرِحُوا بِاجْتِمَاعِ كَلِمَتِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ‏:‏ أَهْلُ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْفَرَجِ قَالَ، سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ بْنَ مُزَاحِمٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏، فَإِنَّهُمْ فَرِحُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا‏:‏ ‏"‏قَدْ جَمَعَ اللَّهُ كَلِمَتَنَا، وَلَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنَّا أَحَدًا ‏[‏أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِنَبِيٍّ‏]‏‏.‏ وَقَالُوا‏:‏ ‏"‏نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، وَنَحْنُ أَهْلُ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ‏"‏، وَكَذَبُوا، بَلْ هُمْ أَهْلُ كُفْرٍ وَشِرْكٍ وَافْتِرَاءٍ عَلَى اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ كَانَتْ الْيَهُودُ أَمَرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَكَتَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏:‏ ‏"‏أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ بِنَبِيٍّ، فَأَجْمِعُوا كَلِمَتَكُمْ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُمْ وَكِتَابِكُمُ الَّذِي مَعَكُمْ ‏"‏، فَفَعَلُوا وَفَرِحُوا بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ، وَفَرِحُوا بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ‏:‏ كَتَمُوا اسْمَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ حِينَ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ، وَكَانُوا يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ فَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏نَحْنُ أَهْلُ الصِّيَامِ وَأَهْلُ الصَّلَاةِ وَأَهْلُ الزَّكَاةِ، وَنَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏"‏، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏، مِنْ كِتْمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، أَحَبُّوا أَنْ تَحْمَدَهُمُ الْعَرَبُ، بِمَا يُزَكُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي الْجَحَّافِ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبُطَيْنِ قَالَ‏:‏ سَأَلَ الْحَجَّاجُ جُلَسَاءَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِي يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ‏:‏ بِكِتْمَانِهِمْ مُحَمَّدًا ‏{‏وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ قَوْلُهُمْ‏:‏ ‏"‏نَحْنُ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ‏"‏‏.‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ، حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَنْـزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ فَحَكَمُوا بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَحَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَرِحُوا بِذَلِكَ، وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏.‏ فَرِحُوا بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ، وَهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ، وَيَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ، وَيُطِيعُونَ اللَّهَ‏.‏ فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏، كُفْرًا بِاللَّهِ وَكُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، مِنَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏، مِنْ تَبْدِيلِهِمْ كِتَابَ اللَّهِ، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَحْمَدَهُمُ النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏، قَالَ‏:‏ يَهُودُ، فَرِحُوا بِإِعْجَابِ النَّاسِ بِتَبْدِيلِهِمُ الْكِتَابَ وَحَمْدِهِمْ إِيَّاهُمْ عَلَيْهِ، وَلَا تَمْلِكُ يَهُودُ ذَلِكَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ أَنَّهُمْ فَرِحُوا بِمَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى آلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ الْيَهُودُ، يَفْرَحُونَ بِمَا آتَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ قَالَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمُعَلَّى الْعَطَّارِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ‏:‏ هُمْ الْيَهُودُ، فَرِحُوا بِمَا أَعْطَى اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ، سَأَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ، فَفَرِحُوا بِكِتْمَانِهِمْ ذَلِكَ إِيَّاهُ‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مَلِيكَةَ‏:‏ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ أَبِي وَقَاصٍّ أَخْبَرَهُ‏:‏ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِرَافِعٍ‏:‏ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَهُ‏:‏ ‏"‏لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لِيُعَذِّبُنَا اللَّهُ أَجْمَعِينَ ‏"‏‏!‏ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا لَكَمَ وَلِهَذِهِ‏!‏ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ، فَسَأَلَهَمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَأَرَوْهُ أَنْ قَدْ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ مِمَّا سَأَلَهُمْ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ‏.‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ قَالَ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ‏:‏ أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مَلِيكَةَ‏:‏ أَنَّ حَمِيدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَخْبَرَهُ‏:‏ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ قَالَ لِبَوَّابِهِ‏:‏ يَا رَافِعُ، اذْهَبْ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَهُ‏:‏ ‏"‏لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ مِنَّا فَرِحَ بِمَا أَتَى وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا، لِنُعَذَّبُنَّ جَمِيعًا ‏"‏‏!‏ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ مَا لَكَُمْ وَلِهَذِهِ الْآيَةِ‏؟‏ إِنَّمَا أُنْـزِلَتْ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ‏!‏ ثُمَّ تَلَا ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكُتَّابَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏‏.‏ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ، وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ، فَخَرَجُوا وَقَدْ أَرَوْهُ أَنْ قَدْ أَخْبَرُوهُ بِمَا قَدْ سَأَلَهُمْ عَنْهُ، فَاسْتَحْمَدُوا بِذَلِكَ إِلَيْهِ، وَفَرِحُوا بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمْ إِيَّاهُ مَا سَأَلَهُمْ عَنْهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عُنِيَ بِذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ يَهُودَ، أَظْهَرُوا النِّفَاقَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَبَّةً مِنْهُمْ لِلْحَمْدِ، وَاللَّهُ عَالِمٌ مِنْهُمْ خِلَافَ ذَلِكَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ ذَكَرَ لَنَا أَنَّ أَعْدَاءَ اللَّهِ الْيَهُودَ، يَهُودَ خَيْبَرَ، أَتَوْا نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَزَعَمُوا أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِالَّذِي جَاءَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ مُتَابِعُوهُ، وَهُمْ مُتَمَسِّكُونَ بِضَلَالَتِهِمْ، وَأَرَادُوا أَنْ يَحْمَدَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ‏:‏ إِنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ أَتَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ فَقَالُوا‏:‏ ‏"‏إِنَّا عَلَى رَأْيِكُمْ وَسَنَتِكُمْ، وَإِنَّا لَكَُمْ رِدْءٌ ‏"‏‏.‏ فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ الْآيَتَيْنِ‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ‏:‏ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ‏:‏ إِنَّ كَعْبًا يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تنَزَلْ فِيكُمْ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ أَخْبَرُوهُ أَنَّهَا نَزَلَتْ وَهُوَ يَهُودِيٌّ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ الْآيَةَ، قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ ‏"‏عُنِيَ بِذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ، لَيُبَيِّنُنَّ لِلنَّاسِ أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَكْتُمُونَهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا‏}‏ الْآيَةَ، فِي سِيَاقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ، وَهُوَ شَبِيهٌ بِقِصَّتِهِمْ مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّهُمُ الْمَعْنِيُّونَ بِذَلِكَ‏.‏

فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ لَا تَحْسَبَنَّ، يَا مُحَمَّدُ، الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا مِنْ كِتْمَانِهِمُ النَّاسَ أَمْرَكَ، وَأَنَّكَ لِي رَسُولٌ مُرْسَلٌ بِالْحَقِّ، وَهُمْ يَجِدُونَكَ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي كُتُبِهِمْ، وَقَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ بِالْإِقْرَارِ بِنُبُوَّتِكَ، وَبَيَانِ أَمْرِكِ لِلنَّاسِ، وَأَنْ لَا يَكْتُمُوهُمْ ذَلِكَ، وَهُمْ مَعَ نَقْضِهِمْ مِيثَاقِي الَّذِي أَخَذْتُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ، يَفْرَحُونَ بِمَعْصِيَتِهِمْ إِيَّايَ فِي ذَلِكَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرِي، وَيُحِبُّونَ أَنْ يَحْمَدَهُمُ النَّاسُ بِأَنَّهُمْ أَهْلُ طَاعَةٍ لِلَّهِ وَعِبَادَةٍ وَصَلَاةٍ وَصَوْمٍ، وَاتِّبَاعٍ لِوَحْيهِ وَتَنْـزِيلِهِ الَّذِي أَنْـزَلَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ، وَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَبْرِيَاءُ أَخْلِيَاءُ، لِتَكْذِيبِهِمْ رَسُولَهُ، وَنَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ، لَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا مِمَّا يُحِبُّونَ أَنْ يَحْمَدَهُمُ النَّاسُ عَلَيْهِ ‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏، فَلَا تَظُنَّهُمْ بِمَنْجَاةٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الَّذِي أَعَدَّهُ لِأَعْدَائِهِ فِي الدُّنْيَا، مِنَ الْخَسْفِ وَالْمَسْخِ وَالرَّجْفِ وَالْقَتْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ، وَلَا هُمْ بِبَعِيدٍ مِنْهُ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ‏}‏، قَالَ‏:‏ بِمَنْجَاةٍ مِنَ الْعَذَابِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ ‏"‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ وَلَهُمْ عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ أَيْضًا مُؤْلِمٌ، مَعَ الَّذِي لَهُمْ فِي الدُّنْيَا مُعَجَّلٌ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏189‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا تَكْذِيبٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الَّذِينَ قَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ‏}‏‏.‏ يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ، مُكَذِّبًا لَهُمْ‏:‏ لِلَّهِ مُلْكُ جَمِيعِ مَا حَوَتْهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ‏.‏ فَكَيْفَ يَكُونُ أَيُّهَا الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ، مَنْ كَانَ مَلَكَ ذَلِكَ لَهُ فَقِيرًا‏؟‏

ثُمَّ أَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِقَائِلِي ذَلِكَ، وَلِكُلِّ مُكَذِّبٍ بِهِ وَمُفْتَرٍ عَلَيْهِ، وَعَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَرَادَ وَأَحَبَّ، وَلَكَِنَّهُ تَفَضَّلَ بِحِلْمِهِ عَلَى خَلْقِهِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ مِنْ إِهْلَاكِ قَائِلِي ذَلِكَ، وَتَعْجِيلِ عُقُوبَتِهِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏190‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَهَذَا احْتِجَاجٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَلَى قَائِلِ ذَلِكَ، وَعَلَى سَائِرِ خَلْقِهِ، بِأَنَّهُ الْمُدَبِّرُ الْمُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ وَالْمُسَخِّرُ مَا أَحَبَّ، وَأَنَّ الْإِغْنَاءَ وَالْإِفْقَارَ إِلَيْهِ وَبِيَدِهِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ تَدَبَّرُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَاعْتَبِرُوا، فَفِيمَا أَنْشَأْتُهُ فَخَلَقْتُهُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لِمَعَاشِكُمْ وَأَقْوَاتِكُمْ وَأَرْزَاقِكُمْ، وَفِيمَا عَقَّبْتُ بَيْنَهُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَجَعَلْتُهُمَا يَخْتَلِفَانِ وَيَعْتَقِبَانِ عَلَيْكُمْ، تَتَصَرَّفُونَ فِي هَذَا لِمَعَاشِكُمْ، وَتَسْكُنُونَ فِي هَذَا رَاحَةً لِأَجْسَادِكُمْ مُعْتَبَرٌ وَمُدَّكِرٌ، وَآيَاتٌ وَعِظَاتٌ‏.‏ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ ذَا لُبٍّ وَعَقْلٍ، يَعْلَمُ أَنَّ مِنْ نَسَبَنِي إِلَى أَنِّي فَقِيرٌ وَهُوَ غَنِيٌّ كَاذِبٌ مُفْتَرٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِيَدِي أُقَلِّبُهُ وَأُصَرِّفُهُ، وَلَوْ أَبْطَلْتُ ذَلِكَ لَهَلَكَْتُمْ، فَكَيْفَ يُنْسَبُ إِلَيَّ فَقْرُ مَنْ كَانَ كُلَّ مَا بِهِ عَيْشُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ‏؟‏ أَمْكَيْفَ يَكُونُ غَنِيًّا مَنْ كَانَ رِزْقُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ، إِذَا شَاءَ رِزْقَهُ، وَإِذَا شَاءَ حَرَمَهُ‏؟‏فَاعْتَبَرُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏191‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا‏}‏ مَنْ نَعْتِ ‏"‏أُولِي الْأَلْبَابِ ‏"‏، وَ ‏"‏الذِين‏"‏ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏"‏‏.‏

وَمَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لِآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ، الذَّاكِرِينَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ قِيَامًا فِي صَلَاتِهِمْ، وَقُعُودًا فِي تَشَهُّدِهِمْ وَفِي غَيْرِ صَلَاتِهِمْ، وَعَلَى جُنُوبِهِمْ نِيَامًا‏.‏

كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا‏}‏ الْآيَةَ، قَالَ‏:‏ هُوَذِكْرُ اللَّهِ فِي الصَّلَاةِ وَفِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ‏}‏، وَهَذِهِ حَالَاتُكَ كُلُّهَا يَا ابْنَ آدَمَ، فَاذْكُرْهُ وَأَنْتَ عَلَى جَنْبِكَ، يُسْرًا مِنَ اللَّهِ وَتَخْفِيفًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ وَكَيْفَ قِيلَ‏:‏ ‏"‏وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ‏"‏‏:‏ فَعَطَفَ بـ ‏"‏عَلَى ‏"‏، وَهِيَ صِفَةٌ، عَلَى ‏"‏الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ ‏"‏ وَهُمَا اسْمَانِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ لِأَنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏{‏وَعَلَى جُنُوبِهِمْ‏}‏ فِي مَعْنَى الِاسْمِ، وَمَعْنَاهُ‏:‏ وَنِيَامًا، أَوْ‏:‏ ‏"‏مُضْطَجِعِينَ عَلَى جُنُوبِهِمْ‏"‏، فَحَسُنَ عَطْفُ ذَلِكَ عَلَى ‏"‏الْقِيَام‏"‏ وَ ‏"‏القُعُودِ ‏"‏لِذَلِكَ الْمَعْنَى، كَمَا قِيلَ‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يُونُسَ‏:‏ 12‏]‏ فَعَطَفَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا‏}‏ عَلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لِجَنْبِهِ ‏"‏، لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لِجَنْبِهِ ‏"‏، مُضْطَجِعًا، فَعَطَفَ بـ ‏"‏الْقَاعِدِ ‏"‏وَ ‏"‏القَائِم‏"‏ عَلَى مَعْنَاهُ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَعَلَى جُنُوبِهِمْ‏}‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّهُمْ يَعْتَبِرُونَ بِصَنْعَةِ صَانِعِ ذَلِكَ، فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا يَصْنَعُ ذَلِكَ إِلَّا مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَمَنْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ وَرَازِقُهُ، وَخَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَمُدَبِّرُهُ، وَمَنْ هُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِيَدِهِ الْإِغْنَاءُ وَالْإِفْقَارُ، وَالْإِعْزَازُ وَالْإِذْلَالُ، وَالْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ، وَالشَّقَاءُ وَالسَّعَادَةُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏191‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏}‏ قَائِلِينَ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا‏}‏، فَتَرَكَ ذِكْرَ ‏"‏قَائِلِينَ ‏"‏، إِذْ كَانَ فِيمَا ظَهَرَ مِنَ الْكَلَامِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا‏}‏ يَقُولُ‏:‏ لَمْ تَخْلُقْ هَذَا الْخَلْقَ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا، وَلَمْ تَخْلُقْهُ إِلَّا لِأَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَمُحَاسَبَةٍ وَمُجَازَاةٍ، وَإِنَّمَا قَالَ‏:‏ ‏"‏مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا‏"‏ وَلَمْ يَقِلْ‏:‏ ‏"‏مَا خَلَقْتَ هَذِهِ، وَلَا هَؤُلَاءِ ‏"‏، لِأَنَّهُ أَرَادَ بـ ‏"‏هَذَا ‏"‏، الْخَلْقَ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ‏.‏ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏، وَرَغْبَتُهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ فِي أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ‏.‏ وَلَوْ كَانَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا‏}‏، السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، لَمَا كَانَ لِقَوْلِهِ عَقِيبَ ذَلِكَ‏:‏ ‏{‏فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ‏}‏، مَعْنًى مَفْهُومٌ‏.‏ لِأَنَّ ‏"‏السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ ‏"‏ أَدِلَّةٌ عَلَى بَارِئِهَا، لَا عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَإِنَّمَا الدَّلِيلُ عَلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ‏.‏

وَإِنَّمَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏أُولِي الْأَلْبَابِ‏}‏ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ أَنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا الْمَأْمُورَيْنِ الْمَنْهِيَّيْنِ قَالُوا‏:‏ ‏"‏يَا رَبَّنَا لَمْ تَخْلُقْ هَؤُلَاءِ بَاطِلًا عَبَثًا سُبْحَانَكَ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ تَنْـزِيهًا لَكَ مِنْ أَنْ تَفْعَلَ شَيْئًا عَبَثًا، وَلَكَِنَّكَ خَلَقْتَهُمْ لِعَظِيمٍ مِنَ الْأَمْرِ، لِجَنَّةٍ أَوْ نَارٍ‏.‏

ثُمَّ فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِالْمَسْأَلَةِ أَنْ يُجِيرَهُمْ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَهُمْ مِمَّنْ عَصَاهُ وَخَالَفَ أَمْرَهُ، فَيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ جَهَنَّمَ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏192‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تَدَخُّلِ النَّارَ مِنْ عِبَادِكَ فَتُخَلِّدُهُ فِيهَا، فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَلَا يَخْزَى مُؤْمِنٌ مَصِيرُهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنْ عُذِّبَ بِالنَّارِ بَعْضَ الْعَذَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ الْجُبَيْرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَا أَخْبَرَنَا الْمُؤَمِّلُ، أَخْبَرَنَا أَبُو هِلَالٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ مَنْ تُخَلِّدُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ هِيَ خَاصَّةٌ لِمَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمٌ قَالَ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنِ الْأَشْعَثِ الْحَمْلِيِّ قَالَ، قُلْتُ لِلْحُسْنِ‏:‏ يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَرَأَيْتَ مَا تَذْكُرُ مِنَ الشَّفَاعَةِ، حَقٌّ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ حَقٌّ‏.‏ قَالَ، قُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا سَعِيدٍ، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تَدْخُلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ وَ ‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 37‏]‏ قَالَ فَقَالَ لِي‏:‏ إِنَّكَ وَاللَّهِ لَا تَسْطُو عَلَيَّ بِشَيْءٍ، إِنَّ لِلنَّارِ أَهْلًا لَا يَخْرُجُونَ مِنْهَا، كَمَا قَالَ اللَّهُ‏.‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ يَا أَبَا سَعِيدٍ، فِيمَنْ دَخَلُوا ثُمَّ خَرَجُوا‏؟‏ قَالَ‏:‏ كَانُوا أَصَابُوا ذُنُوبًا فِي الدُّنْيَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِهَا، فَأَدْخَلَهُمْ بِهَا ثُمَّ أَخْرَجَهُمْ، بِمَا يَعْلَمُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ مَنْ يَخْلُدُ فِيهَا‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ رَبَّنَا إِنَّكَ مِنْ تُدْخِلِ النَّارَ، مِنْ مُخَلَّدٍ فِيهَا وَغَيْرِ مُخَلَّدٍ فِيهَا، فَقَدْ أُخْزِيَ بِالْعَذَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ بَحْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ قَدِمَ عَلَيْنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي عُمْرَةٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ أَنَا وَعَطَاءٌ فَقُلْتُ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ قَالَ‏:‏ وَمَا أَخْزَاهُ حِينَ أَحْرَقَهُ بِالنَّارِ‏!‏ وَإِنَّ دُونَ ذَلِكَ لَخِزْيًا‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ بِالصَّوَابِ عِنْدِي، قَوْلُ جَابِرٍ‏:‏ ‏"‏إِنَّ مَنْ أُدْخِلَ النَّارَ فَقَدْ أُخْزِي بِدُخُولِهِ إِيَّاهَا، وَإِنْ أُخْرِجَ مِنْهَا ‏"‏‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ ‏"‏الْخِزْيَ ‏"‏ إِنَّمَا هُوَ هَتْكُ سِتْرِ الْمَخْزِيِّ وَفَضِيحَتُهُ، وَمَنْ عَاقَبَهُ رَبُّهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى ذُنُوبِهِ، فَقَدْ فَضَحَهُ بِعِقَابِهِ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ هُوَ ‏"‏الْخِزْيُ ‏"‏‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَمَا لِمَنْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَعَصَاهُ، مِنْ ذِي نُصْرَةٍ لَهُ يَنْصُرُهُ مِنَ اللَّهِ، فَيَدْفَعُ عَنْهُ عِقَابَهُ، أَوْ يُنْقِذُهُ مِنْ عَذَابِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏193‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ‏"‏الْمُنَادِي ‏"‏ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏"‏لِمُنَادِي ‏"‏ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، الْقُرْآنُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عَقَبَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏، قَالَ‏:‏ هُوَ الْكِتَابُ، لَيْسَ كُلُّهُمْ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ خَارِجَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ فِيقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏، قَالَ‏:‏ لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكَِنَّ الْمُنَادِيَ الْقُرْآنُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏‏:‏ قَالَ‏:‏ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏، قَالَ‏:‏ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ ‏"‏الْمُنَادِي ‏"‏ الْقُرْآنُ‏.‏ لِأَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، لَيْسُوا مِمَّنْ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَايَنَهُ فَسَمِعُوا دُعَاءَهُ إِلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَنِدَاءَهُ، وَلَكَِنَّهُ الْقُرْآنُ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مُخْبِرًا عَنِ الْجِنِّ إِذْ سَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ يُتْلَى عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْجِنِّ‏:‏ 1- 2‏]‏

وَبِنَحْوِ ذَلِكَ‏:‏ حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ‏}‏، سَمِعُوا دَعْوَةً مِنَ اللَّهِ فَأَجَابُوهَا فَأَحْسَنُوا الْإِجَابَةَ فِيهَا، وَصَبَرُوا عَلَيْهَا‏.‏ يُنْبِئُكُمُ اللَّهُ عَنْ مُؤْمِنِ الْإِنْسِ كَيْفَ قَالَ، وَعَنْ مُؤْمِنِ الْجِنِّ كَيْفَ قَالَ‏.‏ فَأَمَّا مُؤْمِنُ الْجِنِّ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ وَأَمَّا مُؤْمِنُ الْإِنْسِ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏، الْآيَةَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ يُنَادِي إِلَى الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَعْرَافِ‏:‏ 43‏]‏ بِمَعْنَى‏:‏ هَدَانَا إِلَى هَذَا، وَكَمَا قَالَ الرَّاجِزُ‏:‏

أَوْحَـى لَهـا القَـرَارَ فَاسْـتَقَرَّتِ *** وَشَـدَّهَا بِالرَّاسِـيَاتِ الثُّبَّـتِ

بِمَعْنَى‏:‏ أَوْحَى إِلَيْهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ‏:‏ 5‏]‏

وَقِيلَ‏:‏ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ‏:‏ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا لِلْإِيمَانِ، يُنَادِي أَنْ آمَنُوا بِرَبِّكُمْ‏.‏

فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إذًا‏:‏ رَبَّنَا سَمِعْنَا دَاعِيًا يَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ يَقُولُ‏:‏ إِلَى التَّصْدِيقِ بِكَ، وَالْإِقْرَارِ بِوَحْدَانِيَّتِكَ، وَاتِّبَاعِ رَسُولِكَ، وَطَاعَتِهِ فِيمَا أَمَرَنَا بِهِ وَنَهَانَا عَنْهُ مِمَّا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِكَ ‏"‏ فَآمَنَّا رَبَّنَا‏"‏، يَقُولُ‏:‏ فَصَدَّقْنَا بِذَلِكَ يَا رَبَّنَا‏.‏ ‏{‏فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ فَاسْتُرْ عَلَيْنَا خَطَايَانَا، وَلَا تَفْضَحْنَا بِهَا فِي الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ، بِعُقُوبَتِكَ إِيَّانَا عَلَيْهَا، وَلَكَِنْ كَفِّرْهَا عَنَّا، وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، فَامْحُهَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ إِيَّانَا ‏{‏وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ‏}‏، يَعْنِي بِذَلِكَ‏:‏ وَاقْبِضْنَا إِلَيْكَ إِذَا قَبَضْتَنَا إِلَيْكَ، فِي عِدَادِ الْأَبْرَارِ، وَاحْشُرْنَا مَحْشَرَهُمْ وَمَعَهُمْ‏.‏

وَ ‏"‏الْأَبْرَارُ ‏"‏ جَمْعُ ‏"‏بَرٍّ ‏"‏، وَهُمُ الَّذِينَ بَرُّوا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِطَاعَتِهِمْ إِيَّاهُ وَخِدْمَتِهِمْ لَهُ، حَتَّى أَرْضَوْهُ فَرَضِيَ عَنْهُمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏194‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ‏:‏ وَمَا وَجْهُ مَسْأَلَةِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ رَبَّهُمْ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ مُنْجَزُ وَعَدِهِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ إِخْلَافٌ مَوْعِدٍ‏؟‏ قِيلَ‏:‏ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْبَحْثِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ ذَلِكَ قَوْلٌ خَرَجَ مَخْرَجَ الْمَسْأَلَةِ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَإِنَّمَا تَأْوِيلُ الْكَلَامِ‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ‏}‏ لِتُؤْتِيَنَا مَا وَعَدَتْنَا عَلَى رِسْلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ قَالُوا‏:‏ ‏"‏إِنْ تَوَفَّيْتَنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، فَأَنْجِزْ لَنَا مَا وَعَدَتْنَا ‏"‏، لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَأَنَّ مَا وَعَدَ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ لَيْسَ يُعْطِيهِ بِالدُّعَاءِ، وَلَكَِنَّهُ تَفَضَّلَ بِابْتِدَائِهِ، ثُمَّ يُنْجِزُهُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ ذَلِكَ قَوْلٌ مِنْ قَائِلِيهِ عَلَى مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ وَالدُّعَاءِ لِلَّهِ بِأَنْ يَجْعَلَهُمْ مِمَّنْ آتَاهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِهِ، لَا أَنَّهُمْ كَانُوا قَدْ اسْتَحَقُّوا منَزَلَةَ الْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ فِي أَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِاسْتِحْقَاقِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ مَسْأَلَةً لِرَبِّهِمْ أَنْ لَا يُخْلِفَ وَعْدَهُ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ إِنَّمَا سَأَلُوا رَبَّهُمْ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ مَا وَعَدَ الْأَبْرَارَ، لَكَانُوا قَدْ زَكَّوْا أَنْفُسَهُمْ، وَشَهِدُوا لَهَا أَنَّهَا مِمَّنْ قَدْ اسْتَوْجَبَ كَرَامَةَ اللَّهِ وَثَوَابَهُ‏.‏ قَالُوا‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ صِفَةَ أَهْلِ الْفَضْلِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ، وَالرَّغْبَةِ مِنْهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتِيَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ مِنَ النَّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، وَالظَّفَرِ بِهِمْ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ، فَيُعَجِّلُ ذَلِكَ لَهُمْ‏.‏ قَالُوا‏:‏ وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ مَعَ وَصْفِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ، كَانُوا عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَيَرْغَبُوا إِلَى اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكَِنَّهُمْ كَانُوا وُعِدُوا النَّصْرَ، وَلَمْ يُوَقَّتْ لَهُمْ فِي تَعْجِيلِ ذَلِكَ لَهُمْ، لِمَا فِي تَعَجُّلِهِ مِنْ سُرُورِ الظَّفْرِ وَرَاحَةِ الْجَسَدِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي، أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ، صِفَةُ مَنْ هَاجَرَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَطَنِهِ وَدَارِهِ، مُفَارِقًا لِأَهْلِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَغَيْرِهِمْ مَنَّ تُبَّاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِينَ رَغِبُوا إِلَى اللَّهِ فِي تَعْجِيلِ نُصْرَتِهِمْ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِمْ، فَقَالُوا‏:‏ رَبَّنَا آتِنَا مَا وَعَدَتْنَا مِنْ نُصْرَتِكَ عَلَيْهِمْ عَاجِلًا فَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَلَكَِنْ لَا صَبْرَ لَنَا عَلَى أَنَّاتِكَ وَحِلْمِكَ عَنْهُمْ، فَعَجِّلْ ‏[‏لَهُمْ‏]‏ خِزْيَهُمْ، وَلَنَا الظَّفْرَ عَلَيْهِمْ‏.‏

يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ آخِرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى، وَهُوَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا‏}‏ الْآيَاتِ بَعْدَهَا‏.‏ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا ذَهَبَ إِلَيْهِ الَّذِينَ حَكَيْتُ قَوْلَهُمْ فِي شَيْءٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ ‏"‏افْعَلْ بِنَا يَا رَبِّ كَذَا وَكَذَا ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ ‏"‏لِتَفْعَلَ بِنَا كَذَا وَكَذَا ‏"‏‏.‏ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ، لَجَازَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُ لِآخَرَ‏:‏ ‏"‏أَقْبِلْ إِلَيَّ وَكَلِّمْنِي ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ ‏"‏أَقْبِلْ إِلَيَّ لِتُكَلِّمَنِي ‏"‏، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْكَلَامِ وَلَا مَعْرُوفٌ جَوَازَهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ أَيْضًا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْكَلَامِ‏:‏ ‏"‏آتِنَا مَا وَعَدَتْنَا ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ ‏"‏اجْعَلْنَا مِمَّنْ آتَيْتَهُ ذَلِكَ ‏"‏‏.‏ وَإِنْ كَانَ كُلُّ مَنْ أُعْطِيَ شَيْئًا سَنِيًّا، فَقَدْ صُيِّرَ نَظِيرًا لِمَنْ كَانَ مِثْلُهُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي أُعْطِيَهُ‏.‏ وَلَكَِنْ لَيْسَ الظَّاهِرُ مِنْ مَعْنَى الْكَلَامِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إِلَيْهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إذًا‏:‏ رَبَّنَا أَعْطِنَا مَا وَعَدَتْنَا عَلَى أَلْسُنِ رُسُلِكَ‏:‏ إِنَّكَ تُعْلِي كَلِمَتَكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ، بِتَأْيِيدِنَا عَلَى مَنْ كَفَرَ بِكَ وَحَادَّكَ وَعَبَدَ غَيْرَكَ وَعَجِّلْ لَنَا ذَلِكَ، فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّكَ لَا تُخْلِفُ مِيعَادَكَ- وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَفْضَحْنَا بِذُنُوبِنَا الَّتِي سَلَفَتْ مِنَّا، وَلَكَِنْ كَفِّرْهَا عَنَّا وَاغْفِرْهَا لَنَا‏.‏ وَقَدْ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدَتْنَا عَلَى رِسْلِكَ ‏"‏، قَالَ‏:‏ يَسْتَنْجِزُ مَوْعُودَ اللَّهِ عَلَى رُسُلِهِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏195‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ فَأَجَابَ هَؤُلَاءِ الدَّاعِينَ بِمَا وَصَفَ مِنْ أَدْعِيَتِهِمْ أَنَّهُمْ دَعَوْا بِهِ رَبَّهُمْ، بِأَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ عَمِلَ خَيْرًا، ذَكَرًا كَانَ الْعَامِلُ أَوْ أُنْثَى‏.‏

وَذَكَرَ أَنَّهُ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏"‏مَا بَالُ الرِّجَالِ يُذْكَرُونَ وَلَا تَذْكُرُ النِّسَاءُ فِي الْهِجْرَةِ ‏"‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُؤَمِّلٌ قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ‏:‏ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُذْكَرُ الرِّجَالُ فِي الْهِجْرَةِ وَلَا نَذْكُرُ‏؟‏ فنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏}‏، الْآيَة‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا أَسْمَعُ اللَّهَ يَذْكُرُ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ‏؟‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى قَالَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ وَلَدِ أُمِّ سَلَمَةَ، ‏(‏عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ‏:‏ أَنَّهَا قَالَتْ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أَسْمَعُ اللَّهَ ذَكَرَ النِّسَاءَ فِي الْهِجْرَةِ بِشَيْءٍ‏؟‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ‏}‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُمْ‏}‏ بِمَعْنَى‏:‏ فَأَجَابَهُمْ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَدَاعٍ دَعَـا يَـا مَـنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى‏؟‏ *** فَلَـمْ يَسْـتَجِبْهُ عِنْـدَ ذَاكَ مُجِـيبُ

بِمَعْنَى‏:‏ فَلَمْ يَجُبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ‏.‏

وَأُدْخِلَتْ ‏"‏مِنْ ‏"‏فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏}‏ عَلَى التَّرْجَمَةِ وَالتَّفْسِيرِ عَنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏مِنْكُمْ ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ ‏{‏لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ‏}‏، مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ‏.‏ وَلَيْسَتْ ‏"‏مِنْ ‏"‏ هَذِهِ بِالَّتِي يَجُوزُ إِسْقَاطُهَا وَحَذْفُهَا مِنَ الْكَلَامِ فِي الْجَحْدِ، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ بِمَعْنًى لَا يَصْلُحُ الْكَلَامُ إِلَّا بِهِ‏.‏

وَزَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّهَا دَخَلَتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا تَدْخُلُ فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ ‏"‏قَدْ كَانَ مِنْ حَدِيثٍ ‏"‏، قَالَ‏:‏ وَ‏"‏مِنْ ‏"‏ هَاهُنَا أَحْسَنُ، لِأَنَّ النَّهْيَ قَدْ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَا أُضِيعُ ‏"‏‏.‏

وَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ وَقَالَ‏:‏ لَا تَدْخُلُ ‏"‏مِنْ ‏"‏وَتَخْرُجُ إِلَّا فِي مَوْضِعِ الْجَحْدِ‏.‏ وَقَالَ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏لَا ‏{‏أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ‏}‏، لَمْ يُدْرِكْهُ الْجَحْدُ، لِأَنَّكَ لَا تَقُولُ‏:‏ ‏"‏لَا أَضْرِبُ غُلَامَ رَجُلٍ فِي الدَّارِ وَلَا فِي الْبَيْتِ ‏"‏، فَتَدْخُلُ، ‏"‏وَلَا ‏"‏، لِأَنَّهُ لَمْ يَنُلْهُ الْجَحْدُ، وَلَكَِنْ ‏"‏مِن‏"‏ مُفَسِّرَةٌ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ بَعْضُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، فِي النُّصْرَةِ وَالْمِلَّةِ وَالدِّينِ، وَحُكْمِ جَمِيعِكُمْ فِيمَا أَنَا بِكُمْ فَاعِلٌ، عَلَى حُكْمِ أَحَدِكُمْ فِي أَنِّي لَا أُضَيِّعُ عَمَلَ ذَكَرٍ مِنْكُمْ وَلَا أُنْثَى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏195‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوالِأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلِأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏فَالَّذِينَ هَاجَرُوا‏}‏ قَوْمَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَعَشِيرَتَهُمْ فِي اللَّهِ، إِلَى إِخْوَانِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ، ‏{‏وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ‏}‏، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ مِنْ دِيَارِهِمْ بِمَكَّةَ ‏{‏وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَأُوذُوا فِي طَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ، وَعِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، وَذَلِكَ هُوَ ‏"‏سَبِيلُ اللَّه‏"‏ الَّتِي آذَى فِيهَا الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِهَا ‏"‏وَقَاتَلُوا ‏"‏يَعْنِي‏:‏ وَقَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏"‏وَقُتِلُوا‏"‏ فِيهَا ‏{‏لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ لَأَمْحُوَنَّهَا عَنْهُمْ، وَلَأَتَفَضَّلَنَّ عَلَيْهِمْ بِعَفْوِي وَرَحْمَتِي، وَلَأَغْفِرَنَّهَا لَهُمْ ‏{‏وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا‏}‏، يَعْنِي‏:‏ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى مَا عَمِلُوا وَأَبْلَوْا فِي اللَّهِ وَفِي سَبِيلِهِ ‏"‏مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ‏"‏، يَعْنِي‏:‏ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ لَهُمْ ‏{‏وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ مِنْ جَزَاءِ أَعْمَالِهِمْ جَمِيعُ صُنُوفِهِ، وَذَلِكَ مَا لَا يَبْلُغُهُ وَصْفُ وَاصِفٍ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، كَمَا‏:‏

حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا عَمِّي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ‏:‏ أَنَّ أَبَا عُشَّانَةَ الْمَعَافِرَيَّ حَدَّثَهُ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العاصِ يَقُولُ‏:‏ لَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَوَّلَ ثُلَّةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ تُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، إِذَا أُمِرُوا سَمِعُوا وَأَطَاعُوا، وَإِنْ كَانَتْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ حَاجَةً إِلَى السُّلْطَانِ، لَمْ تُقْضَ حَتَّى يَمُوتَ وَهِيَ فِي صَدْرِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ يَدْعُو يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْجَنَّةَ فَتَأْتِي بِزُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا فَيَقُولُ‏:‏ ‏"‏أَيْنَ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي وَقُتِلُوا، وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي، وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِي‏؟‏ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ ‏"‏، فَيُدْخِلُونَهَا بِغَيْرِ عَذَابٍ وَلَا حِسَابٍ، وَتَأْتِي الْمَلَائِكَةُ فَيَسْجُدُونَ وَيَقُولُونَ‏:‏ ‏"‏رَبَّنَا نَحْنُ نَسْبَحُ لَكَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَنُقَدِْسُ لَكَ، مَنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آثَرْتَهُمْ عَلَيْنَا ‏"‏ فَيَقُولُ الرَّبُّ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏هَؤُلَاءِ عِبَادِي الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِي وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي ‏"‏‏.‏ فَتَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ‏:‏ ‏{‏سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الرَّعْدِ‏:‏ 24‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَاخْتَلَفَتِ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ‏"‏‏.‏وَمَا وَرَدَ فِيهَا مِنْ قِرَاءَاتٍ

فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ‏:‏ ‏(‏وَقُتِلُوا وَقُتِّلُوا‏)‏ بِالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُمْ قَتَلُوا مَنْ قَتَلُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ آخَرُونَ‏:‏ ‏(‏وَقَاتَلُوا وَقُتِّلُوا‏)‏ بِتَشْدِيدِ ‏"‏قُتِلُوا ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ وَقَتَّلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، بَعْضًا بَعْدَ بَعْضٍ، وَقَتْلًا بَعْدَ قَتْلٍ‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ ْقَرَأَةِ الْمَدِينَةِ وَبَعْضُ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏{‏وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا‏}‏ بِالتَّخْفِيفِ، بِمَعْنَى‏:‏ أَنَّهُمْ قَاتَلُوا الْمُشْرِكِينَ وَقُتِلُوا‏.‏

وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ ْقَرَأَةِ الْكُوفِيِّينَ‏:‏ ‏"‏وَقُتِلُوا ‏"‏ بِالتَّخْفِيفِ‏.‏ ‏"‏وَقَاتَلُوا ‏"‏، بِمَعْنَى‏:‏ أَنْ بَعْضَهُمْ قُتِلَ، وَقَاتَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي لَا أَسْتَجِيزُ أَنْ أَعْدُوَهَا، إِحْدَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ، وَهِيَ‏:‏ ‏"‏وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا ‏"‏بِالتَّخْفِيفِ، أَوْ ‏"‏وَقُتِلُوا‏"‏ بِالتَّخْفِيفِ ‏"‏وَقَاتَلُوا ‏"‏ لِأَنَّهَا الْقِرَاءَةُ الْمَنْقُولَةُ نَقْلَ وِرَاثَةٍ، وَمَا عَدَاهُمَا فَشَاذٌّ‏.‏ وَبِأَيِّ هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ الَّتِي ذَكَرْتُ أَنِّي لَا أَسْتَجِيزُ أَنْ أَعْدُوَهُمَا، قَرَأَ قَارِئٌ فَمُصِيبٌ فِي ذَلِكَ الصَّوَابَ مِنَ الْقِرَاءَةِ، لِاسْتِفَاضَةِ الْقِرَاءَةِ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي ْقَرَأَةِ الْإِسْلَامِ، مَعَ اتِّفَاقِ مَعْنَيَيْهِمَا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏196- 197‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ ‏[‏196- 197‏]‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏"‏وَلَا يَغُرَّنَّكَ ‏"‏ يَا مُحَمَّدُ ‏{‏تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ تَصَرُّفُهُمْ فِي الْأَرْضِ وَضَرْبُهُمْ فِيهَا، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ، حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ‏:‏ ‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ ضَرْبُهُمْ فِي الْبِلَادِ‏.‏

فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الِاغْتِرَارِ بِضَرْبِهِمْ فِي الْبِلَادِ، وَإِمْهَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، مَعَ شِرْكِهِمْ، وَجُحُودِهِمْ نِعَمَهُ، وَعِبَادَتِهِمْ غَيْرَهُ‏.‏ وَخَرَجَ الْخُطَّابُ بِذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمَعْنِيُّ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَصْحَابِهِ، كَمَا قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَلَكَِنْ كَانَ بِأَمْرِ اللَّهِ صَادِعًا، وَإِلَى الْحَقِّ دَاعِيًا‏.‏

وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ‏}‏، وَاللَّهِ مَا غَرُّوا نَبِيَّ اللَّهِ، وَلَا وَكَلَ إِلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مَتَاعٌ قَلِيلٌ‏}‏، فَإِنَّهُ يَعْنِي‏:‏ أَنْ تَقَلُّبَهُمْ فِي الْبِلَادِ وَتَصَرُّفَهُمْ فِيهَا، مُتْعَةٌ يُمَتَّعُونَ بِهَا قَلِيلًا حَتَّى يَبْلُغُوا آجَالَهُمْ، فَتَخْتَرِمُهُمْ مَنِيَّاتُهُمْ ‏{‏ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ‏}‏، بَعْدَ مَمَاتِهِمْ‏.‏

وَ ‏"‏الْمَأْوَى ‏"‏‏:‏ الْمَصِيرُ الَّذِي يَأْوُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَصِيرُونَ فِيهِ‏.‏

وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏‏.‏ وَبِئْسَ الْفِرَاشُ وَالْمَضْجَعُ جَهَنَّمُ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏198‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَكَِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُـزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ‏:‏ ‏{‏لَكَِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ‏}‏، لَكَِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَاتِّبَاعِ مَرْضَاتِهِ، فِي الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ ‏"‏لَهُمْ جَنَّاتٌ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ بَسَاتِينُ، ‏"‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ بَاقِينَ فِيهَا أَبَدًا‏.‏ ‏{‏نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ إِنْـزَالًا مِنَ اللَّهِ إِيَّاهُمْ فِيهَا، أُنْـزَلُوهَا‏.‏

وَنُصِبَ ‏"‏نُزُلًا ‏"‏ عَلَى التَّفْسِيرِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ‏"‏، كَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏لَكَ عِنْدَ اللَّهِ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا ‏"‏، وَكَمَا يُقَالُ‏:‏ ‏"‏هُوَ لَكَ صَدَقَةٌ ‏"‏‏:‏ وَ‏"‏هُوَ لَكَ هِبَةٌ ‏"‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ يَعْنِي‏:‏ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ، وَمِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ، وَعَطَايَاهُ لَهُمْ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ‏}‏، يَقُولُ‏:‏ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْكَرَامَةِ، وَحُسْنِ الْمَآبِ ‏"‏، ‏{‏خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ‏}‏، مِمَّا يَتَقَلَّبُ فِيهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَإِنَّ الَّذِي يَتَقَلَّبُونَ فِيهِ زَائِلٌ فَانٍ، وَهُوَ قَلِيلٌ مِنَ الْمَتَاعِ خَسِيسٌ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ مِنْ كَرَامَتِهِ لِلْأَبْرَارِ- وَهُمْ أَهْلُ طَاعَتِهِ بَاقٍ، غَيْرُ فَانٍ وَلَا زَائِلٌ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، سَمِعْتُ ابْنَ زَيْدٍ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ‏}‏، قَالَ‏:‏ لِمَنْ يُطِيعُ اللَّهَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ مَا مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهَا‏.‏ ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ‏}‏، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 178‏]‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ فَرَجِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ لُقْمَانَ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ‏:‏ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، وَمَا مِنْ كَافِرٍ إِلَّا وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْنِي فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ‏}‏، وَيَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ عَنَى بِهَا أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيَّ، وَفِيهِ أُنْـزِلَتْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا عِصَامُ بْنُ رَوَّادِ بْنِ الْجَرَّاحِ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهَذَلِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏اخْرُجُوا فَصَلُّوا عَلَى أَخٍ لَكَُمْ‏)‏‏.‏ فَصَلَّى بِنَا، فَكَبَّرَ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَذَا النَّجَاشِيُّ أَصْحَمَةُ‏)‏، فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ‏:‏ انْظُرُوا إِلَى هَذَا يُصَلِّي عَلَى عِلْجٍ نَصْرَانِيٍّ لَمْ يَرَهُ قَطُّ‏!‏ فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ‏:‏ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَخَاكُمْ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلَّوْا عَلَيْهِ‏.‏ قَالُوا‏:‏ يُصَلَّى عَلَى رَجُلٍ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ‏!‏ قَالَ‏:‏ فنَزَلَتْ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ‏}‏‏.‏ قَالَ قَتَادَةُ‏:‏ فَقَالُوا‏:‏ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يُصَلِّي إِلَى الْقِبْلَةِ‏!‏ فَأَنْـزَلَ اللَّهُ‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏}‏‏.‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 115‏]‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏، ذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، وَفِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ آمَنُوا بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقُوا بِهِ‏.‏ قَالَ‏:‏ وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَغْفَرَ لِلنَّجَاشِيِّ وَصَلَّى عَلَيْهِ حِينَ بَلَغَهُ مَوْتَهُ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ‏:‏ ‏(‏صَلُّوا عَلَى أَخٍ لَكَُمْ قَدْ مَاتَ بِغَيْرِ بِلَادِكُمْ ‏"‏‏!‏ فَقَالَ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ‏:‏ ‏"‏يُصَلِّي عَلَى رَجُلٍ مَاتَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِ ‏"‏فَأَنْـزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏، قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ مِمَّنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْمُ النَّجَاشِيِّ، أَصْحَمَةَ‏.‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ‏:‏ اسْمُ النَّجَاشِيِّ بِالْعَرَبِيَّةِ‏:‏ عَطِيَّةُ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ لَمَّا صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، طَعَنَ فِي ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ، فنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ‏}‏، إِلَى آخِرِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى بِذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَمَنْ مَعَهُ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ‏:‏ نَزَلَتْ-يَعْنِي هَذِهِ الْآيَةَ- فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمَنْ مَعَهُ‏.‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏، الْآيَةَ كُلَّهَا قَالَ‏:‏ هَؤُلَاءِ يَهُودُ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ بَلْ عَنَى بِذَلِكَ مُسْلِمَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ، حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُمْ مُسْلِمَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قَالَهُ مُجَاهِدٌ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏"‏ أَهْلَ الْكِتَابِ جَمِيعًا، فَلَمْ يُخَصِّصْ مِنْهُمْ النَّصَارَى دُونَ الْيَهُودِ، وَلَا الْيَهُودَ دُونَ النَّصَارَى‏.‏ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّمِنْ ‏"‏أَهْلِ الْكِتَاب‏"‏ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ‏.‏ وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ أَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏.‏

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ‏:‏ فَمَا أَنْتَ قَائِلٌ فِي الْخَبَرِ الَّذِي رَوَيْتَ عَنْ جَابِرٍ وَغَيْرِهِ‏:‏ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ وَأَصْحَابِهِ‏؟‏

قِيلَ‏:‏ ذَلِكَ خَبَرٌ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ‏.‏ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَا شَكَّ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَمَا قُلْنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ بِخِلَافٍ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ جَابِرًا وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، إِنَّمَا قَالُوا‏:‏ ‏"‏نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ‏"‏، وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ فِي الشَّيْءِ، ثُمَّ يَعُمُّ بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ‏.‏ فَالْآيَةُ وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ فِي النَّجَاشِيِّ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ جَعَلَ الْحُكْمَ الَّذِي حَكَمَ بِهِ لِلنَّجَاشِيِّ، حُكْمًا لِجَمِيعِ عِبَادِهِ الَّذِينَ هُمْ بِصِفَةِ النَّجَاشِيِّ فِي اتِّبَاعِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بَعْدَ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنَ اتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ عِبَادَهُ فِي الْكِتَابَيْنَِ، التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ‏.‏

فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ‏"‏لِمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّه‏"‏ فَيُقِرُّ بِوَحْدَانِيَّتِهِ ‏{‏وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، يَقُولُ‏:‏ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِهِ وَوَحْيِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏{‏وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ وَمَا أُنْـزِلَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْكُتُبِ، وَذَلِكَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَالزَّبُورُ ‏{‏خَاشِعِينَ لِلَّهِ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ خَاضِعِينَ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ، مُسْتَكِينِينَ لَهُ بِهَا مُتَذَلِّلِينَ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏خَاشِعِينَ لِلَّهِ‏}‏، قَالَ‏:‏ الْخَاشِعُ، الْمُتَذَلِّلُ لِلَّهِ الْخَائِفُ‏.‏

وَنُصِبَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏خَاشِعِينَ لِلَّهِ‏}‏، عَلَى الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ‏}‏، وَهُوَ حَالٌ مِمَّا فِي ‏"‏يُؤْمَنُ ‏"‏ مِنْ ذِكْرِ ‏"‏مَنْ ‏"‏‏.‏

‏{‏لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ لَا يُحَرِّفُونَ مَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ فِي كُتُبِهِ مِنْ نَعْتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُبَدِّلُونَهُ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ وَحُجَجِهِ فِيهِ، لِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا خَسِيسٍ يُعْطَوْنَهُ عَلَى ذَلِكَ التَّبْدِيلِ، وَابْتِغَاءِ الرِّيَاسَةِ عَلَى الْجُهَّالِ، وَلَكَِنْ يَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ، فَيَعْمَلُونَ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِيمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ كُتُبِهِ، وَيَنْتَهُونَ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ فِيهَا، وَيُؤْثِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى هَوَى أَنْفُسِهِمْ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏199‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِمْ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ‏}‏، يَعْنِي‏:‏ لَهُمْ عِوَضُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوهَا، وَثَوَابُ طَاعَتِهِمْ رَبَّهُمْ فِيمَا أَطَاعُوهُ فِيهِ ‏"‏عِنْدَ رَبِّهِمْ ‏"‏ يَعْنِي‏:‏ مَذْخُورٌ ذَلِكَ لَهُمْ لَدَيْهِ، حَتَّى يَصِيرُوا إِلَيْهِ فِي الْقِيَامَةِ، فَيُوَفِّيهِمْ ذَلِكَ ‏"‏إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏"‏، وَسُرْعَةُ حِسَابِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوهَا، وَبَعْدَ مَا عَمِلُوهَا، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى إِحْصَاءِ عَدَدِ ذَلِكَ، فَيَقَعُ فِي الْإِحْصَاءِ إِبْطَاءٌ، فَلِذَلِكَ قَالَ‏:‏ ‏"‏إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ‏.‏

فَقَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ وَصَابِرُوا الْكُفَّارَ وَرَابِطُوهُمْ ‏"‏‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنِ الْحَسَنِ‏:‏ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ أَمَرَهُمْ أَنْ يَصْبِرُوا عَلَى دِينِهِمْ، وَلَا يَدَعُوهُ لِشِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ وَلَا سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُصَابِرُوا الْكُفَّارَ، وَأَنْ يُرَابِطُوا الْمُشْرِكِينَ‏.‏

حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏، أَيْ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَابِرُوا أَهْلَ الضَّلَالَةِ، وَرَابَطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ صَابِرُوا الْمُشْرِكِينَ، وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى الطَّاعَةِ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، وَرَابِطُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ، أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ وَرَابِطُوهُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا وَعْدِي إِيَّاكُمْ عَلَى طَاعَتِكُمْ لِي، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏، يَقُولُ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى دِينِكُمْ، وَصَابِرُوا الْوَعْدَ الَّذِي وَعَدْتُكُمْ، وَرَابِطُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ، حَتَّى يَتْرُكَ دِينَهُ لِدِينِكُمْ‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى ذَلِكَ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ وَرَابِطُوهُمْ‏.‏

ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ قَالَ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏، قَالَ‏:‏ اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَصَابِرُوا عَدُوَّكُمْ، وَرَابِطُوا عَلَى عَدُوِّكُمْ‏.‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا مُطْرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَنِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ‏:‏ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرَ لَهُ جُمُوعًا مِنَ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمْرُ‏:‏ ‏"‏أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّهُ مَهْمَا نَزَلَ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مَنْزِلَةِ شِدَّةٍ، يَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَهَا فَرَجًا، وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ، وَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

وَقَالَ آخَرُونَ‏:‏ مَعْنَى‏:‏ ‏"‏وَرَابِطُوا ‏"‏، أَيْ‏:‏ رَابِطُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ، أَيْ‏:‏ انْتَظَرُوهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ‏.‏

ذِكْرُ مِنْ قَالَ ذَلِكَ‏:‏

حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ، حَدَّثَنَا سُوَيْدٌ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ، قَالَ لِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ‏:‏ يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ تَدْرِي فِي أَيِّ شَيْءٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ‏:‏ ‏{‏اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا‏}‏‏؟‏ قَالَ قُلْتُ‏:‏ لَا‏!‏ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ يَا ابْنَ أَخِي لَمْ يَكُنْ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزْوٌ يُرَابَطُ فِيهِ، وَلَكَِنَّهُانْتِظَارُ الصَّلَاةِ خَلْفَ الصَّلَاة ِرِبَاطٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ قَالَ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَلَيٍّ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهِ الذُّنُوبَ وَالْخَطَايَا‏؟‏ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكَ الرِّبَاطُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَهْلٍ الرَّمْلِيُّ قَالَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ وَاضِحٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُهَاجِرٍ قَالَ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَزِيدَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَبِي أَنِيسَةَ، عَنْ شُرَحْبِيلَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيُكَفِّرُ بِهِ الذُّنُوبَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ قُلْنَا‏:‏ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏!‏ قَالَ‏:‏ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ فِي أَمَاكِنِهَا، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاط‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مُخَلَّدٍ قَالَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏(‏أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَحُطُّ اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ‏؟‏ ‏"‏ قَالُوا‏:‏ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ‏!‏ قَالَ‏:‏ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ‏)‏‏.‏

حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِنَحْوِهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي ذَلِكَ‏:‏ ‏"‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏"‏، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، ‏"‏اصْبِرُوا ‏"‏عَلَى دِينِكُمْ وَطَاعَةِ رَبِّكُمْ‏.‏ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخَصِّصْ مِنْ مَعَانِي ‏"‏الصَّبْر‏"‏ عَلَى الدِّينِ وَالطَّاعَةِ شَيْئًا، فَيَجُوزُ إِخْرَاجُهُ مِنْ ظَاهِرِ التَّنْـزِيلِ‏.‏ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّهُ عُنِيَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏"‏اصْبِرُوا‏"‏، الْأَمْرُ بِالصَّبْرِ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِي طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَ وَنَهَى، صَعْبِهَا وَشَدِيدِهَا، وَسَهْلِهَا وَخَفِيفِهَا‏.‏

‏"‏وَصَابِرُوا‏"‏، يَعْنِي‏:‏ وَصَابِرُوا أَعْدَاءَكُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي ‏"‏الْمُفَاعَلَةِ ‏"‏ أَنْ تَكُونَ مِنْ فَرِيقَيْنِ، أَوْ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا، وَلَا تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَّا قَلِيلًا فِي أَحْرُفٍ مَعْدُودَةٍ‏.‏ فَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَإِنَّمَا أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُصَابِرُوا غَيْرَهُمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، حَتَّى يُظْفِرَهُمُ اللَّهُ بِهِمْ، وَيُعْلِيَ كَلِمَتَهُ، وَيُخْزِيَ أَعْدَاءَهُمْ، وَأَنْ لَا يَكُونُ عَدُوُّهُمْ أَصْبَرَ مِنْهُمْ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏"‏وَرَابِطُوا‏"‏، مَعْنَاهُ‏:‏ وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَعْدَاءَ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ وَرَأَى أَنَّ أَصْلَ ‏"‏الرِّبَاطِ ‏"‏، ارْتِبَاطُ الْخَيْلِ لِلْعَدُوِّ، كَمَا ارْتَبَطَ عَدْوُّهُمْ لَهُمْ خَيْلَهُمْ، ثُمَّ اسْتَعْمَلَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مُقِيمٍ فِي ثَغْرٍ يَدْفَعُ عَمَّنْ وَرَاءَهُ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ أَعْدَائِهِمْ بِسُوءٍ، وَيَحْمِي عَنْهُمْ مِنْ بَيْنَِهِ وَبَيْنَهُمْ مِمَّنْ بَغَاهُمْ بِشَرٍّ، كَانَ ذَا خَيْلٍ قَدْ ارْتَبَطَهَا، أَوْ ذَا رَجْلَةٍ لَا مَرَكَبَ لَهُ‏.‏

وَإِنَّمَا قُلْنَا مَعْنَى‏:‏ ‏"‏وَرَابِطُوا‏"‏، وَرَابِطُوا أَعْدَاءَكُمْ وَأَعْدَاءَ دِينِكُمْ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَعْرُوفُ مِنْ مَعَانِي ‏"‏الرِّبَاطِ‏"‏‏.‏ وَإِنَّمَا يُوَجَّهُ الْكَلَامُ إِلَى الْأَغْلَبِ الْمَعْرُوفِ فِي اسْتِعْمَالِ النَّاسِ مِنْ مَعَانِيهِ، دُونَ الْخَفِيِّ، حَتَّى تَأْتِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ صَرْفَهُ إِلَى الْخَفِيِّ مِنْ مَعَانِيهِ حُجَّةٌ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا مِنْ كِتَابٍ، أَوْ خَبَرٍ عَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ إِجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ‏:‏ يَعْنِي بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ‏:‏ ‏"‏وَاتَّقُوا اللَّهَ‏"‏، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَاحْذَرُوهُ أَنَّ تُخَالِفُوا أَمْرَهُ أَوْ تَتَقَدَْمُوا نَهْيَهُ ‏"‏لَعَلَّكُمْ تَفْلَحُونَ ‏"‏، يَقُولُ‏:‏ لِتُفْلِحُوا فَتَبْقَوْا فِي نَعِيمِ الْأَبَدِ، وَتَنْجَحُوا فِي طَلَبَاتِكُمْ عِنْدَهُ، كَمَا‏:‏ حَدَّثَنَا يُونُسُ قَالَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ‏:‏ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏، وَاتَّقَوْا اللَّهَ فِيمَا بَيْنَِي وَبَيْنَكُمْ، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غَدًا إِذَا لَقِيتُمُونِي‏.‏ آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ‏.‏